"ماذا تريدونني أن أفعل؟ أأعاقبهم بالموت؟ إنهم يريدونه ويأتون هنا من أجله".
كان هذا رد فعل رئيس حكومة الاحتلال حينها إسحاق رابين، بعد أن رأى أشلاء جنوده المتناثرة على قارعة الطريق قرب محطة حافلات مفترق بيت ليد غرب مدينة طولكرم، عندما حطم الاستشهاديان أنور سكر وصلاح شاكر، أسطورة الجيش الذي لا يقهر، فزلزلا بالحقائب الناسفة أركان كيانهم الهش.. لتظل أصداء أول عملية نوعية مزدوجة في تاريخ العمل المقاوم، تتردد كلما حانت الذكرى..
تفاصيل العملية
كانت عقارب الساعة تشير إلى التاسعة والنصف صباحا، يوم الأحد 22/1/1995، عندما انقطع البث التلفزيوني والإذاعي لجميع وسائل إعلام الاحتلال المسموعة والمرئية، لتنقل حدثا استثنائيا، لم تعهد مثله المنظومة الأمنية الصهيونية، ترجم ذلك العنوان الرئيسي لصحيفة يديعوت أحرونوت: أقسى العمليات التي استهدفت الجيش الإسرائيلي داخل الخط الأخضر".
العملية المزدوجة التي نفذتها حركة الجهاد الإسلامي أسفرت حينها عن مقتل 22 جنديا صهيونيا وإصابة أكثر من ستين، ثلثهم وصفت جراحهم بالخطيرة.
بدأت العملية عندما فجّر الاستشهادي أنور سكر نفسه، فمزق الجنود أشلاء، ودب الهلع والخوف في المكان، وبعد أن تجمع الجنود، خرج لهم الاستشهادي صلاح شاكر ليذيق من تبقى جرعة قاسية من كأس الموت، ويجندل عددا آخر بين قتيل ممزق، وجريح لا يعلم ماذا حل به.
في اليوم التالي للعمليّة، ظهرت صورة رابين على واجهات الصحف العبرية، إلى جانب رئيس أركان جيشه، وهما ينظران صوب الحفرة التي أحدثها الانفجار الأول، وأرفقتها بعبارة رابين الشهيرة عن العمليّة "ليس بمقدوري ردع من يبحث عن الموت".
وعنونت "يديعوت أحرنوت" إحدى صفحاتها في ذاك اليوم بـ "قبعات الجنود الحمراء ارتوت بالدماء". وقالت إنّ مؤسس حركة حماس الشيخ أحمد ياسين سمع صوت الانفجارين، حيث كان معتقلًا في سجن قريب من المكان.
أمّا صحيفة معاريف العبرية فعنونت صدر صفحتها الأولى بخطّ أحمر عريض "دموع الغضب" ونشرت صورة الجنود القتلى، إلى جانب مقال يحثّ على وقف التفاوض مع الفلسطينيين.
وشكلت عملية بيت ليد البطولية فارقا خطيرا لدى الكيان الصهيوني، باعتبارها تطورا نوعيا يهدد أمن دولة الاحتلال، واخترقت التحصينات والاحتياطات الأمنية للعدو، لتستهدف محطة لنقل الجنود وتسقط عددا كبيرا من القتلى والجرحى بين الجنود والضباط.
محمود الخواجا
عملية بيت ليد الأسطورة، كانت نتاج تفكير وتخطيط معمق، أسس له العقل الفذ محمود الخواجا، الذي لم يعرف طعم الراحة منذ اغتيال صديقه هاني عابد، ليبدأ التخطيط لعملية الرد الكبير.
وقبل العملية، تم رصد مكان الهدف بدقة لعدة أسابيع .. كان الهدف مقصفا يرتاده جنود العدو في مفرق بيت ليد، وتم نقل صلاح شاكر من رفح وأنور سكر من الشجاعية إلى مكان العملية وإحضار البدلات العسكرية التي تشبه بدلات الجنود مع حقائب المتفجرات التي حملت كل واحدة منهما شحنة تي ان تي وزنها 15 كيلو جراما، تم استخراجها من مخلفات قديمة.
في مساء اليوم ذاته، خرج الأمين العام المؤسس الدكتور فتحي الشقاقي، ليعلن عن العملية بشكل رسمي وهو يبتسم تارة ويضحك تارة أخرى ضحكات فرح ورضا، حيث قال وقتها: نعم نعم لقد قامت "قسم" بتنفيذ العملية، انتقمنا لدماء شهدائنا، الشهداء يعشقون خيار الحياة الأفضل".
سألوا الشقاقي حينها: كيف تغسلون أدمغة هؤلاء الشبان ؟ فقال : والله هم الذين يغسلون أدمغتنا ويقنعوننا بالشهادة ، وليعلم رابين وجنرالاته أنه كلما قُتل منّا قائد، فليجهز توابيت لجنوده ".
قرار اغتيال الشقاقي ورفاقه
أخذ رابين في هذا اليوم قراره القاضي باغتيال الدكتور الشقاقي رداً على العملية، وعندما علم الشقاقي قال بثقة ويقين "من يأخذ على عاتقه قرار اغتيالي سيفقد مستقبله" سألوه ألا تقوم بعمل استشهادي ؟ فقال : الشهادة حلمي منذ الصغر أحسست بالاقتراب منها في فترة التحقيق معي وتمنيتها ولكن وضعي السياسي والتنظيمي كان يدفعني بعيداً عنها ، على كلَ حال لا زلت أنتظر.
أثارت عملية بيت ليد الرأي العام الصهيوني، وبدأت المطالبات بالتعامل بشكل جدي إزاء العمليات الاستشهادية ومن يقف وراءها، والحيلولة دون وقوع بيت ليد جديدة، واتخاذ إجراءات أمنية صارمة، الأمر الذي دفع رابين للتفكير في وضع خطة لفصل دولة الكيان عن الضفة الغربية وقطاع غزة، واتباع سياسة الاغتيالات لتصفية كل من يقف وراء مثل هذا النوع من العمليات.
وبالفعل، تم استهداف العقول المدبرة لبيت ليد، فطالت أيدي الموساد الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي الدكتور فتحي الشقاقي، ومن قبله مؤسس الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي محمود الخواجا، ومن بعدهما الشهيد المهندس محمود الزطمة ( مهندس الأحزمة الناسفة لعملية بيت ليد ) والذي تمكنت قوات الاحتلال من اغتياله خلال انتفاضة الأقصى، بالإضافة إلى اعتقال عدد من كوادر الجناح المسلح لـ"الجهاد الإسلامي" بتهمة المشاركة في التخطيط لتلك العملية.
وبالرغم من مرور 25 عاما على العملية، لم تزل سلطات الاحتلال تحتجز جثماني الشهيدين أنور سكر وصلاح شاكر، ضمن 24 جثة ترفض دولة الاحتلال تسليمها.
الشهيد أنور سكر
ولد الشهيد أنور محمد سكر في حي الشجاعية بمدينة غزة في 10/ 12/ 1972، ونشأ في كنف أسرة هاجرت من قرية (بيت جرجا) المهجرة الواقعة على مسافة (15) كيلومترا الى الشمال الشرقي من غزة.
تلقى الاستشهادي تعليمه الابتدائي والإعدادي وجزءً من الثانوي في مدارس حي الشجاعية، تم ترك مقاعد الدراسة ليعمل داخل الأراضي المحتلة مع أبيه، وبعد ذلك تعلم مهنة النجارة على يد أبيه، وظل شهيدنا أنور يعمل كنجار للموبيليا في إحدى متاجر غزة وفي منجرته داخل بيتهم حتى استشهاده.
انضم الشهيد أنور سكر إلى صفوف حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين عام 1986م أي قبل اندلاع الانتفاضة، وعمل في جهازها الإعلامي والثقافي، وتتلمذ على يديه الكثير من الأشبال الذين أكملوا مسيرة الجهاد معه.
ومع بداية الانتفاضة كان من الأوائل الذين أسسوا اللجان السياسية التابعة لحركة الجهاد الإسلامي في حي الشجاعية.
وقد اعتقل الشهيد أنور المرة الأولى في ضربة (1989م) وحكم عليه بالسجن لمدة 11 شهراً بتهمة الانتماء لحركة الجهاد الإسلامي والمشاركة في فعالياتها، وأمضى مدة اعتقاله في معتقل النقب الصحراوي (كتسعوت).
خرج الشهيد سكر من المعتقل وكله عزيمة على مواصلة نشاطه، واستمر يعمل في هذه اللجان، ليتم اعتقاله للمرة الثانية على أيدي جنود الاحتلال في شهر رمضان عام 1994م لمدة شهر ونصف قضاها في معتقل "أنصار 2" بغزة… وخرج بعد ذلك ليواصل نشاطه السابق بزخم أكبر… وأعتقل المرة الثالثة في عهد السلطة الفلسطينية بتاريخ 11/11/1994م عقب العملية الاستشهادية في مفترق نتساريم والتي نفذها الشهيد المنتقم هشام حمد… حيث اعتقل في سجن السرايا لمدة عشرين يوماً وقد سمع أحداث مجزرة مسجد فلسطين وهو داخل السرايا مع أخوته المجاهدين.
تأثر الشهيد أنور سكر بحادثة اغتيال القائد هاني عابد، فقرر أن يكون من أوائل المنتقمين، كما كتب في وصيته، وبدأ يعد العدة لذلك اليوم، حتى نال ما تمنى.
الشهيد صلاح شاكر
ولد الشهيد صلاح عبد الحميد شاكر محمد في مدينة رفح بالقرب من الحدود المصرية، بتاريخ 19/4/1969، بعيدا عن بلدته الأصلية "بشيت" التي هاجر منها والده مع أسرته سنة 1948.
أنهى الشهيد صلاح شاكر دراسته الثانوية بمعدل 88% ورفض السفر إلى ليبيا لدراسة الهندسة لأنه لم يكن يرغب في أن يترك الانتفاضة التي تزامنت مع إنهاء دراسته الثانوية، وكان يرغب في الالتحاق بجامعة النجاح في مدينة نابلس ولكن إغلاق القطاع المستمر حال بينه وبين ذلك، وأخيراً درس العلاج الطبيعي في مستشفى الأهلي بمدينة غزة لمدة ثلاثة سنوات حصل من خلالها على الدبلوم، كما كان فناناً تشكيلياً له العديد من اللوحات الفنية ولوحات الخط الجميلة.
عرف الشهيد البطل صلاح شاكر الإسلام منذ صغره، وتعرف على حركة الجهاد الإسلامي، وهو لا يزال شبلاً في المرحلة الابتدائية حيث كان دائم الاشتراك في المعسكرات الصيفية التي كانت تعقدها الحركة كإحدى وسائلها لنشر فكرة الجهاد في قلوب الناس وذلك في بداية الثمانينات.
كبرت في داخله بذرة الجهاد إلى أن جاءت الانتفاضة المباركة لينتمي صلاح إلى اللجان الشعبية التابعة لحركة الجهاد الإسلامي حيث كان مشهوراً بخطه الجميل الذي كان يزين جدران المخيم ولوحات العزاء للشهداء، وقد تم اعتقاله ضمن الضربة الشهيرة التي قامت بها المخابرات الصهيونية ضد حركة الجهاد الإسلامي في شهر 12/ 1989، ليخرج شهيدنا البطل بعد 18 يوماً قاهراً جلاده ورافضاً الاعتراف وليواصل طريقه مرة أخرى وينضم للجناح العسكري للجهاد الإسلامي (القوى الإسلامية المجاهدة - قسم).
الشهادة كانت أقصى ما يتمناه الاستشهادي صلاح شاكر، فكان ثاني اثنين مع الاستشهادي أنور سكر، حطما جبروت الكيان الصهيوني، ومرغا أنوف جيشه في التراب، ليحفرا معا أسطورة بيت ليد التي لا تُنسى.